نُشِر المقال بمجلة «الهلال» في 1 يوليو عام 2002.
الطفولة والشباب الغضّ، كان محفوظ مثل أقرانه من المصريين يتنفس السياسة الوطنية باعتبارها محورًا للحياة، فسياسة الحكام الدكتاتوريين الممالئين للقصر الملكي المستند إلى حراب الاحتلال البريطاني، كانت تتحكم في رقاب الناس وفي مستوى معيشتهم وقدرتهم على العمل والكسب وتعليم أبنائهم، لذلك كانت المقاومة الوطنية الديمقراطية هي أمل الناس في التخلص من الأوضاع الجائرة، وفي مستقبل متحرر.
وفي بيت محفوظ، كان والده يتكلم بحماس عن أبطالنا القوميين، وكانت أسماء مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول محاطة بالقداسة، وحينما كان والده يتحدث عن رجال السياسة بانفعالٍ شديد، كان الطفل يشعر أنهم ينقسمون إلى أصدقاء أو أعداء شخصيين وفقًا لمقتضيات الروح الشعبية في الشارع وأماكن العمل والسوق والساحات العامة.
وعند محفوظ، كان الوفد ضمير الأمة ومعقد الآمال كما صوّر ذلك في الثلاثية من وجهة نظر يحيطها بالتعاطف عند شخصية كمال عبد الجواد، التي تحمل طرفًا من تطور أفكار محفوظ. ولم يكن محفوظ عضوًا في أي حزب طوال حياته، كما لم يشغل قط أي منصب سياسي.
وفي شخصية عامر وجدي في رواية «ميرامار» قبل الهزيمة مباشرة (١٩٦٦)، كان الوفد يمثل للصحفي الذي اقترب من الثمانين جانب الثورة «العالمية الخالدة ١٩١٩»، جانب الأوهام المحلّقة في السحب والعبارات الحماسية ذات الدويّ الشعري، بعيدًا عن المصالح الطبقية الأنانية وأكياس أعيان الريف الممثّلة بالفضة. وبعد ذلك، حينما ألغى مصطفى النحاس معاهدة ١٩٣٦، عادت روح ثورة ١٩١٩ عام ١٩٥٠ إلى الحياة السياسية المصرية، في ظروف محتدمة من الصراع الطبقي والفكري.
وفي «المرايا» (١٩٧١)، تقول شخصية إن الوفد زحف عليه العجز والتدهور، وتقول شخصية يسارية أخرى: «الثورة أفضل من الوفد». وفي فترة ما قبل ١٩٥٢، كانت «الاشتراكية» في رواياته متعددة الاتجاهات، وكانت الكلمة تلقى تعاطفًا واسعًا، وتنتحلها التيارات السياسية الجماهيرية كافة: الطليعة الوفدية، الاشتراكية الوطنية (مصر الفتاة)، الاشتراكية الإسلامية. أما الاشتراكية الماركسية، فكان ينقصها حزب علني معترف به وقاعدة جماهيرية. وكان الشيوعي يُحاط بالتعاطف أحيانًا في رواياته، ويُساق بعد ذلك إلى العزلة في صخب تصريحاته المعادية للدين أو إلى السجن.
ولكنه لم يكن يحيط جماعة الإخوان المسلمين بعطفٍ خاص كتنظيم سياسي، وإن تعاطف مع بعض أفراد هذه الجماعة من الشباب من ناحية تعبيرهم عن قيمٍ عامةٍ، لا تطبيقات عملية واقتصادية وسياسية مستمدة من عصورٍ ذهبيةٍ متخيلةٍ تصلح لجميع العصور إلى أبد الآبدين، فقد تعاطف القصّ مع القيم الدينية والإنسانية في العدل والرقي الخُلقي.
وجاءت حركة الجيش في يوليو ١٩٥٢، ولم تكن تطلق على نفسها اسم «الثورة»، بل كانت «حركة مباركة». وفي سنواتها الأولى، كانت في الممارسة ذات توجه إصلاحي، يحاول التخلص من علامات النظام القديم مع الاحتفاظ بأسسه. كان الإصلاح الزراعي محدودًا جدًا بالنسبة إلى حاجات التنمية، وكانت النقابات التي أقرها منطوق القانون – العمال الزراعيين – مطاردة بوحشية في الواقع، ولم تكن أراضي الإصلاح الزراعي نفسها تطبّق قانون الحد الأدنى للأجور.
وكان الاتجاه إلى الغرب صارخًا، فالمسألة الوطنية في السنوات الأولى انحصرت في الجلاء، والأمل في رؤوس الأموال الأجنبية التي ارتفعت حصتها في قانون الشركات إلى ٥١٪، أي إلى معدل أعلى من القانون أيام العهد البائد (٤٩٪ عام ١٩٤٧). وكتب عبد الناصر في مقدمة كتاب «حقيقة الشيوعية»: إننا لا نعترض على الأحلاف العسكرية، ويمكن أن نناقش إمكان الانضمام إليها بعد الجلاء.
ففي بداية الحركة المباركة، لم يكن التوجه «الثوري» شيئًا يمكن التنبؤ به أو كامنًا في نوايا مجلس قيادة الثورة؛ بل تحقق عبر تناقضات وصدامات وتأرجحات داخل مصر والعالم العربي والوضع العالمي. لذلك كان موقف محفوظ هو موقف الانتظار والترقب، ولم يكن مجتمع ما بعد ١٩٥٢ قد تشكّل أو وضحت معالمه.
وأول عمل نُشر له بعد ذلك هو «أولاد حارتنا» (١٩٥٧)، وكان من الطبيعي أن يناقش هذا العمل، فكرة الثورة من أجل التقدم الفكري والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية...
لقد كان الواقع منذ ١٩٥٢، وبعد قمع هبّة مارس ١٩٥٤ واعتقال وفصل ممثلي الاتجاهات المعارضة جميعًا، ثم ممارسة التعذيب الوحشي في السجن الحربي، خانقًا، وكان تغييب الديمقراطية (ابتداءً من إعدام العاملين خميس والبقري بعد محاكمة هزلية، ومطاردة النقابيين وسجنهم، وسيطرة الاتحاد القومي على النقابات والانتخابات بجميع مستوياتها وأشكالها، وفرض الرقابة على كل مجالات التعبير)، يجعل من بعض القرارات الثورية حبرًا على ورق، أو يعرقل تنفيذها، أو يجعل تنفيذها هشًّا.
فالحارة (رمز مصر) تطرح السؤال على «الثورة» وعلى أهدافها المُعلنة الوطنية والديمقراطية والاجتماعية التي يوافق عليها محفوظ: ماذا عن التطبيق في نظامها الفعلي؟ هل تسير في طريق الثورات العالمية السياسية والروحية؟
الثورة الفرنسية استولى عليها الرأسماليون الاستعماريون، والروسية استولى عليها البيروقراطيون الدكتاتوريون، والثورات الروحية الكبرى استولى عليها مُرابو شعب مختار أو كهنة إمبراطوريات إقطاعية «مقدسة»، أو أصحاب ملك دنيوي عضوض. فهل تسير ثورتنا المباركة في اتجاه سيطرة أقلية طبقية جديدة تقهر الشعب وتسرقه باسم الشعب؟ وهل تعود الثورة إلى ممارسة تنتمي إلى قوى البغي المتماثلة في الماضي والحاضر؟
ولكن «أولاد حارتنا» تؤكّد أنه كما يواصل الاستغلال والاستبداد العود الأبدي تواصله، كذلك حركة الرفض والاحتجاج والمقاومة. ولكن تاريخ الحارة (والعالم) لا يسير في الرواية داخل دورات مغلقة متشابهة، ولم تكن الثورات السياسية والروحية عبثًا. فالعود ليس رجوعًا إلى نقطة البداية، فثمة مكاسب ضخمة حققتها أغلبية الناس في التقدم المادي والعلمي والفكري، وفي آفاق أهدافهم الجديدة.
إن قضية الخبز والحرية والتسامي الأخلاقي والروحي، التي انتهت الثلاثية بإبرازها، تنبثق من جديد في «أولاد حارتنا» على مستوى أعلى يناسب ما أضافته حركة ضباط يوليو إلى أهداف ثورة ١٩١٩.
وبدأت حركة الجيش تتخذ طابعًا ثوريًّا حقيقيًّا، ظهر خافتًا في مؤتمر باندونج، ثم نما عندما قطعت صلتها – على أساس تدريجي – بمحاولاتها السابقة في الاستعانة بالأمريكان في بناء الاقتصاد، وبناء السد العالي، وأمّمت القناة بعد رفض الأحلاف العسكرية، وقاومت الغزو الاستعماري الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي، واتجهت إلى استغلال التناقضات بين المعسكرين العالميين مع الاستقلال عنهما، ورفضت نظرية ملء الفراغ الأمريكية أيام إيزنهاور؛ لأنها تعني حلول الاستعمار الجديد محل الاستعمار القديم. وكان محفوظ في تصريحاته ورواياته يؤيد هذه النقاط الحاسمة.
وحينما يصوّر العلاقة بين ثورة ١٩١٩ ومنجزات ثورة يوليو ١٩٥٢ في رواية «السمان والخريف» (١٩٦٢)، وبطلها وفديّ مرموق نحّته الثورة جانبًا، ولا سبيل له إلى إنكار أن الثورة قد حقّقت أهم الأهداف الوطنية لحزبه، الذي أصبح محظورًا، يُطرح سؤال: هل كان من الممكن لحزب الأغلبية الشعبية أن يحقق شيئًا مما أنجزته الثورة في المجال الوطني؟
إن عيسى الدباغ، بطل الرواية، كان فاسدًا مرتشيًا، وتسخر الرواية من المتسلّقين الذين يتسلّلون إلى تنظيمات الثورة دون إيمان بمبادئها، ومن أغنياء «الاشتراكية». ويقرأ محمود الربيعي الرواية باعتبار أن بطلها رمز للماضي، وقد جوبه قبل ذلك بـ«الثائر المتوثب»، كما جوبه بتحجّره الذاتي وإفلاسه.
والسؤال الحيوي هو: هل يستطيع رمز الماضي أن يتغلّب على هزيمته الذاتية؟ (قراءة الرواية). وأصدقاؤه مثله من رجال الماضي، ولكن بعضهم ينافق الثورة أو يهرب إلى القمار والنشوة الحسية.
فالرواية لا تتخذ موقفًا نقديًا من الثورة أو تقدّم رفضًا لها، بل ترسم صورة حيّة لاستمرار الحيوانات المنقرضة في الحاضر، وكذلك الحال مع «اللص والكلاب» (١٩٦١)، فهي تصوّر المتاجرين بشعارات الثورة، والتمرد عليهم بالإرهاب الفردي طائش الرصاصات، ولا تعتبر الروايات المحفوظية أن الثورة قد شكّلت الواقع الاجتماعي والنفسي للناس، وخلقتهم على مثالها من جديد، أو أنها مسؤولة عن مظاهر السلوك السلبية في المجتمع، فهذه المظاهر مستمرة منذ زمن بعيد، ولم يكن محفوظ عابدًا لسعد زغلول مبغضًا لعبد الناصر.
وفي «ميرامار»، يوجّه النقد الحاد لممثلي النظام القديم ومحاولاتهم المنحطّة استعادة الماضي ومعاداة الثورة. إن «زهرة» الفلاحة، ممثلة الشعب، تؤمن بالثورة إيمانًا فطريًّا، وجميع النزلاء في البنسيون يميلون إليها، كلٌّ حسب رؤيته السياسية، ولكنها تصد ممثلي الملكية الكبيرة للأرض وممثلي الطبقات المنقرضة كقطة متوحشة، فقد مضى عهد الباشوات...
... وتعطي قلبها وذراعيها وشفتيها لمن بدا لها ممثّلًا للثورة، ولكنها لا تفقد معه الشيء الذي لا يُعوّض، فقد حفّزتها الثورة إلى أن تتعلّم، وإلى إدراك أن الفوارق الاجتماعية في سبيلها إلى الذوبان، فالدنيا تغيّرت، وكلّنا أبناء حوّاء وآدم، ومن حقها أن تنظر إلى فوق.
وهي تبصق عليه بعد أن اكتشفت حقيقته، وترفض بائع جرائد ميسور الحال، ولا تعتبره كُفؤًا لها؛ لأنه يروّض النساء بالحذاء، وستعود معه إلى مثل حياة القرية قبل الثورة.
ويسخر السرد في الرواية من شهادة أحد أعمدة النظام القديم عن الثورة، ويقرنها بشهادة «ماريانا» عشيقته القديمة، صاحبة البنسيون، القوّادة المتقاعدة، وهما يعرفان لحنًا واحدًا:
الأول يرى في طرف الحبل المشدود حول عنقه طيف سعد زغلول، الذي بذر – في رأيه – البذرة الخبيثة: الثورة الحالية. وشهادته تجيء مماثلة لما ينسبه بعض النقاد إلى محفوظ، على الرغم من سخرية السرد الروائي ورفضه الكامل لها:
ما الذي يدعو أحدًا إلى الالتصاق بالثورة؟ لقد سلبت البعض أموالهم، وسلبت الجميع حريتهم. وحوش يتعاركون على أسلابنا، هاتفين: «تحيا الاشتراكية والتقشف»، ما تحت بذلة الثوري إلا مولع بالترف. الجواسيس وعملاء البوليس ينتشرون كالوباء! أين أيام الديمقراطية؟ أيام (إسماعيل صدقي وإبراهيم عبد الهادي)؟ الاشتراكية الحقّة أيام سيدنا عمر؛ لأنه كان يمشي جائعًا في الأسواق. إنه يرى أن الاعتداء على فدّانيه الألف اعتداء على كون الله وسُنّته وحكمته،
ومملكة السماء عنده مخفر لحراسة مصالحه، وقد أنابت عنها أمريكا للقيام بالمسؤولية المقدّسة. (هل كان يحلم برئيسٍ مؤمن ينتمي إلى العالم «الحر»؟)
إنه يواصل عزف اللحن المشترك مع ماريانا (التي فقدت زوجها الضابط البريطاني في ثورة ١٩، ومالها في ثورة ١٩٥٢). فهل كانت مأساتهما فاصلًا كوميديًّا يؤديانه معًا كما يوحي السرد؟ إنهما في ليلة رأس السنة يعجزان عن ممارسة الحب، هو في حاجة إلى معجزة لتحريكه، بعد أن تجردت أمامه ماريانا مومياء من شمعٍ مذاب، وانتابتها آلام الكلى بدلًا من تأوّهات المتعة، وأصبحا غير جديرين بالصباحية المباركة.
والسرد المحفوظي هنا كان يقطع بأن كل محاولاتهما الكحولية لاسترداد الزمن الضائع ميؤوس منها. وهل كان أحد يستطيع أن يتنبّأ بأن الصباحية المباركة بين ديناصورات النظام القديم ودمى التبعية لأمريكا، ستعقب احتفالات زفاف صاخبة من داخل سرداق ثورة يوليو الذي أُبعد بالكامل منه ممثلو أي رقابة شعبية، من جانب إخوة زهرة وأخواتها، أصحاب المصلحة الحقيقية في استمرار الثورة وتعميقها؟
فهل تحمي الأجهزة البوليسية والإدارية، وممثلوها في أعلى عليين، ثورةً شعبية؟ ما أسهل أن يتساقطوا كأوراق الخريف، كما تردّد بعد ذلك.
وفي «أمام العرش»، يتعرض محفوظ (مؤرخ الحياة الشعبية) لمناقشة القمم الحاكمة من مينا إلى السادات بعد اغتياله. والعرش هو عرش أوزيريس، إله العالم السفلي، وميزانه هو ميزان الإنجاز الوطني، ولكن هذا الميزان في الحقيقة يمسك به محفوظ لا أوزيريس، والأحكام هي تصريحات عامة مباشرة، لا علاقة لها بالفن الروائي الدرامي، وتعكس الرأي السائد في الإعلام الرسمي أيامها (١٩٨٣)، وقد اختلف محفوظ مع بعضها في روايات تالية.
إن محكمة أوزيريس يجلس بين أعضائها الحكام الموعودون بالجنة، ليشتركوا في محاسبة من جاء بعدهم. إن تحتمس الثالث يأخذ على عبد الناصر، رجل الجيش، مسؤوليته عن الهزائم العسكرية، وكان الجيش المصري الذي بُني وصُلّح في سنوات قليلة (بعد ١٩٥٥)، كان من المطلوب منه – ولو كان على رأسه تحتمس الثالث – أن يهزم عدوانًا تقوم به إمبراطوريتان عظيمتان وقتها (إنجلترا وفرنسا)، و«إسـ.رائـ.ـيل» ربيبة أمريكا وألمانيا عسكريًا.
ولم يكن عبد الناصر مخطئًا في تأميم القناة، ولو كانت الشركة ستُعيد القناة بعد زمن قصير، فلماذا شنّت بريطانيا وفرنسا العدوان لاستردادها؟ إن العدوان كان على استقلال مصر وبناء اقتصادها.
أما هزيمة ١٩٦٧، فترجع إلى خطة مدبّرة كشفت عنها الوثائق بين أمريكا و«إسـ.رائـ.ـيل»، وإلى أخطاء نُشرت بعد ذلك من جانب شخصيات في القيادة العسكرية، لم تكن خاضعة لسيطرة عبد الناصر، ولم تكن متفرّغة للجيش.
وكان الجيش المصري، بتضحية رجاله وبسالتهم، يقوم بواجبه في الدفاع عن حدود مصر، ولم يعتدِ على أحد، ولم يهاجم أحدًا.
أما اتهام سعد زغلول لعبد الناصر بالاستبداد، فقد تعرّض هو لمثله من جانب الأحرار الدستوريين الرجعيين، كما كان أول من قبض على الشيوعيين الذين قبض عليهم عبد الناصر بعد ذلك، وقام بدور في ضرب نقابات العمال، وتحريم حق الإضراب، وإخضاع النقابات لحزب الوفد، كما أدانَ كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، ودعا إلى محاكمة مؤلفه.
ولكن خطيئة الثوريين في مصر بين ١٩١٩ و١٩٥٢، كانت استدعاء جماهير مجردة من سلاح التنظيم السياسي والنقابي، إلى المبايعة والتصفيق، وإعطاء أصواتها في الصناديق، ثم تسريحها بعد ذلك كأفراد مبعثرين، وأنفار في طابور التأييد، بلا مشاركة في اتخاذ القرار.
وفي محاكمة عبد الناصر، يقول مصطفى النحاس على لسان نجيب محفوظ: إنه مذنب في إلغائه حقوق الإنسان، رغم ما فعله من أجل الفقراء. ولا شك في أن أجهزة الثورة البوليسية اعتدت أبشع اعتداء على حقوق الإنسان وكرامته، استمرارًا لهذه الاعتداءات قبل الثورة، ولا شك في أن السنوات القليلة التي سُمح فيها للوفد بأن يحكم دون إقالة، تميّزت بحريات واسعة.
أما القول بأن عبد الناصر دمّر المثقفين، طليعة الأمة، فإنه يقبل المناقشة. حقًّا، إنه سجن معارضيه، ولُفّقت لهم التهم، وعملت الأجهزة على تشويه صورتهم،
وشاركت أقلام مأجورة في ذلك (وهي ممارسة طويلة الأمد مستمرة)، ولكن القول بأن المثقفين عمومًا فقدوا إحساسهم بالكرامة الإنسانية وروح المبادرة، فهو قول ظالم.
إن عبد الناصر – إلى حدٍّ ما – قصر ضرباته على المثقفين المعارضين، ولكنه عندما أمّم الصحافة، وفرض الرقابة على كل وسائل التعبير، سمح لكل الاتجاهات الفكرية بالتعبير عن نفسها إن لم تعارض سياسته العملية.
وكان المثقفون اللامعون أيامه: طه حسين، توفيق الحكيم، سهير القلماوي، نجيب محفوظ (الذي عرف أكبر ازدهار له في الفترة الناصرية رغم كل شيء)، عباس العقاد، عزيز أباظة باشا، ثروت أباظة، طُبعت أعماله في مؤسسات الدولة، وجلس في لجان المجلس الأعلى للآداب والفنون، مؤيدًا لرجل الثورة في الآداب والفنون يوسف السباعي، وتمتّع برؤية أعماله في سينما الدولة وتليفزيونها، وحاز على أول جائزة تشجيعية عام ١٩٥٨، كما قُرّرت روايته «ابن عمار» على شهادة الإعدادية عام ١٩٤٣، ولم يكن أحد منهم يُحسب على الثورة.
وهل حارب عبد الناصر: يحيى حقي، زكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، أحمد بهاء الدين، صلاح عبد الصبور، عبد الرحمن الشرقاوي... إلى آخر القائمة الطويلة؟
دعك من مجانية التعليم، ومن توفير الوظائف للخريجين، وبعد ذلك نجد اتهامات النحاس لعبد الناصر مختلطة بنبرات صوت محفوظ التي ردّدها بعد ذلك.
ألم تكن تنمية القرية المصرية أهم من تبنّي ثورات العالم؟ ولكن النحاس كان رجل دولة يعرف علاقة استقلال مصر بثورات العالم، وقد تبنّى الوفد ثورة مصدق في إيران حينما أمّم البترول، بعد علاقة وثيقة مع حزب المؤتمر الهندي، وإقامة علاقات مساندة مع حركات الاستقلال في المشرق والمغرب العربي، ورفض مشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط، ودخول الحرب الكورية رغم الضغوط الأمريكية، وانتقادات الصحافة الأمريكية، وأمريكا الضاحكة.
وهل كان استقلال مصر ممكنًا دون الثورات ضد الإمبريالية العالمية؟
ختامًا:
بيد أن محفوظ لا يستمد قيمته الكبيرة من تصريحاته السياسية والاقتصادية؛ بل من أعماله الروائية والقصصية. وفي «أمام العرش» تصريحات مجرّدة، إن أوزيريس يتردد في إرسال عبد الناصر إلى الجنة، بزعم أن القليلين هم الذين خدموا بلادهم مثلما خدمها، وأقلّ منهم هؤلاء الذين أضرّوا بها بقدر ما فعل (!!)، بل إن مأثرة السادات التي صعدت به إلى الفردوس، هي «تصحيح» ما ورثه من نواحي خلل حكم عبد الناصر.